سورة الأنعام - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49)} [الأنعام: 6/ 46- 49].
هذه الآيات ابتداء احتجاج على الكفار بأدلّة قريبة حسّية تثبت قدرة اللّه ووحدانيته، واللّه تعالى هو المحتجّ المبرهن، والوسيط هو الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم، وأسلوب ذلك: قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين المكذّبين المعاندين: أخبروني عما تفعلون، إن سلبكم اللّه نعمة السّمع والبصر والفؤاد، فتصيرون صمّا عميا بلها، لا تسمعون قولا، ولا تبصرون طريقا، ولا تعقلون نفعا ولا ضررا، وتنغلق قلوبكم، فلا تنفذ إليها هداية اللّه، ولا تعقل الأمور، ماذا تفعلون مع آلهتكم التي تعبدونها؟ أكنتم تدعونها لكشف الضّرّ عنكم، وترجون شفاعتهم لو فعل اللّه بكم ذلك، أم كنتم تدعون اللّه ليردّ عليكم السمع والبصر والفؤاد؟! معنى هذا الاستفهام أنه ليس هناك إله سواه، فما بال تعلّقكم بالأصنام وتمسّككم بها، وهي لا تدفع ضررا ولا تأتي بخير؟ انظر أيها النّبي وكل عاقل، كيف نقلّب الآيات ونكررها على أساليب متعددة ووجوه مختلفة لإقناعهم بوحدانية اللّه، ثم هم يعرضون عن دلالاتها وإشاراتها، ويبقون في ضلالهم سادرين منغمسين، ولا يتأملون في الآيات بعين مبصرة بعيدة عن التقليد والعصبية.
قل لهم على سبيل الوعيد والتّهديد: أخبروني إن أتاكم عذاب اللّه فجأة من غير شعور ولا مقدمات، كما أتى الذين من قبلكم من المكذّبين كالخسف والغرق والزّلزال، أو أتاكم العذاب جهارا نهارا وأنتم تعاينونه وتنظرون إليه، أخبروني ماذا أنتم فاعلون؟ هل يهلك بهذا العذاب الشامل إلا القوم الظالمون أنفسهم بالشّرك والاعتقاد الباطل، وأصرّوا على الكفر والعناد؟! ثم أوضح اللّه تعالى مهام الأنبياء والمرسلين ليتأثّروا بها، ويفيدوا من عطائها ونفعها، فما نرسل الرّسل إلا ليبشّروا بإنعامنا ورحمتنا لمن آمن، وبالجنة لمن أسلم، وينذروا بعذابنا وعقابنا من كذّب وكفر، ولسنا نرسلهم ليقترح عليهم الآيات، ويتابعوا شذوذ كل متعسّف أو معاند، وما عليهم إلا إبلاغ الرسالة، سواء آمن الناس أو كفروا.
ومصير الفريقين من المؤمنين والكافرين برسالات الأنبياء واضح وقاطع الوعد، ومحقق الجزاء، فمن آمن وأصلح عمله بامتثال الطاعات، واتّباع الرّسل، فلا خوف عليهم من مخاطر المستقبل، ولا هم يحزنون على ما فاتهم في الدنيا ولا على شيء يصادفهم يوم لقاء اللّه. وهذا وعد ثابت محقق، كما قال اللّه تعالى: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)} [الأنبياء: 21/ 103].
ومن كذّب بآيات اللّه التي أرسل اللّه بها الرّسل، وفسق، أي خرج عن الحدّ في كفرانه وعصيانه، ولم ينفّذ أوامر اللّه، وارتكب المنهيات المحظورات، يمسّهم العذاب، أي يباشرهم ويلتصق بهم، بسبب كفرهم وفسقهم، وكان جزاؤهم أنواع النقمة في الدنيا، والتّلظّي بنار جهنم في الآخرة. فإن أصاب الكافر خير في الدنيا فهو متاع قليل، والعبرة بالمصير الدائم والخلود الأبدي في العذاب في الآخرة، وذلك هو الخسران المبين، والضّلال البعيد.
مصدر المعرفة للنّبي صلّى اللّه عليه وسلّم:
تتنوع مصادر المعرفة بالنسبة للبشر، فمنها العلوم المكتسبة المتلقاة من الآخرين، ومنها الأعراف والعادات السائدة، ومنها الخبرات والتجارب، وأهم مصادر المعرفة وأوثقها وأدقها: الوحي الإلهي الذي يزوّد البشرية بمعلومات ومعارف ضرورية وأساسية في تكوين ثقافاتهم، ويبقى أمام الإنسان بعد الوحي ساحة المعرفة الدنيوية المستمدة من الآخرين ومن الإبداع البشري. والوحي الإلهي مقصور على الأنبياء والرّسل عليهم الصّلاة والسّلام، وقد صرّح القرآن الكريم بهذا في تعليم نبيّنا عليه الصّلاة والسّلام، فقال اللّه تعالى:


{قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)} [الأنعام: 6/ 50- 51].
ثم أورد القرآن الكريم دليلا قطعيّا على كون القرآن من مصدر إلهي لا بشري، حين أوصى بالضعفاء الملازمين للنّبي صلّى اللّه عليه وسلّم، وفضّلهم على الزعماء وكبار الأشراف، فقال اللّه تعالى:


{وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [الأنعام: 6/ 52- 53].
تحصر الآيتان الأوليان مصدر معارف النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم بالوحي الإلهي، ردّا على المشركين الذين كانوا يطلبون من النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم معجزات مادّية قاهرة، فأجابهم بأني: لا أملك خزائن اللّه وأرزاقه، ولا أقدر على التصرّف فيها وتوزيعها كما أشاء، ولا أدّعي علم الغيب الذي استأثر اللّه بعلمه، فلم يطلع عليه أحدا، كما قال سبحانه: {عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27)} [الجنّ: 72/ 26- 27].
ولا أقول لكم: إني أحد الملائكة، إنما أنا بشر يوحى إلي من اللّه عزّ وجلّ ما يريد ويختار، والمراد من هذا أني لا أدّعي الألوهية، ولا علم الغيب، ولا الملكية، إنما أنا بشر أتبع ما يوحى إلي من ربّي، كسائر الأنبياء والرّسل من قبلي، فمعرفتي وعلمي ومعلوماتي كلها مستمدة من الوحي، وذلك يستوجب التأمل في وحي اللّه وملكوته، لأنه لا يستوي الناظر المفكّر في الآيات مع المعرض الكافر المهمل للنظر، فالأعمى والبصير مثالان للمؤمن والكافر، أي ففكّروا أنتم وانظروا، لتميّزوا بين ضلال الشرك وهداية الإسلام، وتعقلوا ما في القرآن من أدلة توحيد اللّه واتّباع رسول اللّه، وهذا يدلّ على إثبات القدرة المطلقة والعلم الشامل لله سبحانه.
ثم أمر اللّه نبيّه بأن ينذر ويخوّف جميع الخلائق بالوحي القرآني، وهم أهل الملل السماوية الثلاثة الذين يخافون من الحشر وأهواله، وشدة الحساب يوم القيامة، وما يتبع ذلك من الجزاء على الأعمال عند لقاء اللّه، في حال من ليس له ولي ناصر ولا شفيع شافع، أنذرهم بهذا أيها النّبي لعلهم- أي البشر- يتّعظون ويتّقون، فيمتثلون الأوامر وينتهون عن الكفر والمعاصي.
ثم ذكر القرآن مثلا رائعا في مجاملة الضعفاء، فمنع من تقريب أشراف القوم من قريش، وحذّر من طرد ضعفاء الناس المؤمنين الموحّدين الذين يعبدون اللّه في الصباح والمساء، ويدعونه سرّا وعلانية، ويخلصون في طاعتهم وعبادتهم، فلا يقصدون إلا إرضاء اللّه تعالى، المستحق وحده للعبادة، وهؤلاء هم الذين يختص اللّه بحسابهم، وليس لك أيها النّبي محاسبتهم على شيء، ولم تكلف شيئا غير دعائهم للدين، لا ترزقهم ولا يرزقونك، وإن طردتهم من مجلسك كنت من الظالمين أنفسهم.
فأي دليل بعد هذا الإنذار الموجّه للنّبي يدلّ على أن القرآن لا يتصور إلا أن يكون كلام اللّه، وليس بكلام بشر ولو كان نبيّا.
ثم أماط القرآن اللثام عن حقيقة جوهرية هي تعدد الأديان: من إسلام وشرك، ولقد ابتلى اللّه المؤمنين بالمشركين وعلى العكس واختبرهم بذلك، وابتلاء المؤمنين بالمشركين: هو ما يلقون منهم من الأذى، وابتلاء المشركين بالمؤمنين: هو أن يرى أشراف المشركين مدى تعظيم اللّه لقوم لا سمعة ولا مكانة لهم، وكانت عاقبة هذا الاختبار: أن قال المشركون: أهؤلاء الضعفاء الذين منّ اللّه عليهم من بيننا بالخير والتقدم؟ فردّ اللّه عليهم: بأن اللّه أعلم بمن يؤمن ويشكر اللّه، فيوفّقه للإيمان، وهو سبحانه أعلم بمن يصمّم على الكفر، فيخذله ويحجب عنه اللطف والتوفيق.
وقد نزلت آية النّهي عن طرد الضعفاء من مجلس النّبي في ستة أنفار كسعد بن أبي وقاص وعبد اللّه بن مسعود، طالب المشركون بطردهم من مجلس النّبي، قائلين:
اطردهم، فإنا نستحي أن نكون تبعا لك كهؤلاء، فنهى اللّه نبيّه عن ذلك، إعلاء لدرجة الإيمان، وإدناء لمرتبة الشّرك أو الكفر.
مظاهر الرّحمة الإلهيّة:
لا يستغني الإنسان عن رحمة اللّه طرفة عين، فإن وجوده وبقاءه، وسعادته وشقاءه، وأفراحه وأحزانه وغير ذلك مرهون برحمة اللّه وفضله، وإحسانه ولطفه، فالله لطيف رحيم بعباده، ويزيد اللطف بعبّاده، يمنح لهم الخير، ويحميهم من الشّر ما داموا على جادة الاستقامة قائمين، وبهدي اللّه عاملين، بل إنه يرحم العصاة والكافرين به، لأن رحمته سبقت غضبه، ولولا الرّحمة الإلهية ما بقي في هذا العالم كافر ولا مشرك. قال اللّه تعالى:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8